بقلم: محمد العايدي الإدريسي
محلل سياسي وفاعل مجالي
في خطابه السامي بمناسبة عيد العرش المجيد، رسم جلالة الملك محمد السادس بوضوح معالم مرحلة جديدة في البناء الوطني، تقوم على إعادة ترتيب الأولويات وتعزيز العدالة المجالية، لا كخيار اجتماعي فقط، بل كدعامة مركزية للتماسك الوطني والاستقرار السياسي في مغرب اليوم.
لقد أكد الخطاب أن المغرب لا يمكن أن يسير بسرعتين: مركز يتجه بخطى واثقة نحو التحديث والنمو، وهوامش جبلية وقروية وجهوية ما تزال تئن تحت وطأة الهشاشة وقصور البنيات الأساسية. وبين هذا وذاك، دعوة واضحة إلى تعاقد وطني جديد، لا تُترك فيه الدولة وحدها في الواجهة، بل يُستدعى فيه الفاعل الاقتصادي الوطني، كما الأحزاب السياسية والشباب والنساء، إلى الاضطلاع بدورهم الكامل في إنجاح هذا الورش الحيوي
أولاً: التأهيل المجالي المتكامل – من المقاربات التقليدية إلى التعاقد الذكي
ما دعا إليه جلالة الملك ليس مجرد توزيع للمشاريع، بل “نقلة حقيقية في التأهيل الشامل للمجالات الترابية”. التأهيل هنا يعني دمج الجهة في الدينامية الوطنية الكبرى، ليس كمجال يستفيد، بل كمحرك للتنمية، عبر تمكينه من الاستثمارات، من الموارد، ومن الكفاءات.
وهذا لا يتحقق إلا من خلال مشاريع مهيكلة ومندمجة، منسجمة مع الرؤية الكبرى للدولة، سواء في ما يتعلق بالقطارات فائقة السرعة، أو الربط الطاقي والمائي، أو الاستثمار في الرأسمال البشري.
ثانياً: رأسمال وطني في موقع المسؤولية – من المساهمة المحتشمة إلى تقاسم المخاطر
في أكثر فقرات الخطاب وضوحاً، يمكن قراءة امتعاض ملكي من التردد الذي يبديه جزء من الرأسمال الوطني أمام فرص الاستثمار في المناطق الصعبة، رغم ما توفره الدولة من ضمانات لوجستيكية وأمنية ومالية، بل ورغم ما تستفيده هذه الفئات من الامتيازات في المركز.
هنا، يُطرح سؤال صريح: إلى متى يستمر هذا التفاوت بين ما تحققه بعض المجموعات في الصحة، والتعليم، والتمويل، والسياحة، والفلاحة من أرباح ضخمة، وبين غيابها شبه التام في المناطق التي تُبنى فيها المدارس والمستشفيات والطرقات بتمويل عمومي شبه كلي؟
إنه نداء إلى انتقال الرأسمال المغربي من منطق الربح السريع والمضمون، إلى منطق “تقاسم المخاطر”، بل والقبول بالاستثمار في “المجالات الصعبة”، تماماً كما فعلت برجوازيات كثيرة في العالم ساهمت في بناء دولها.
ثالثاً: الجبهة الداخلية – تجديد النخب وصيانة التماسك الوطني
اختار جلالة الملك، قبيل سنة من الانتخابات التشريعية، أن يوجه رسالة واضحة إلى النخب السياسية: لا ديمقراطية بدون نخب جادة، ولا تنمية بدون نخبة قادرة على ترجمة الرؤية الملكية، لا العكس.
دعا الملك إلى إعداد جيد للاستحقاقات المقبلة، وضمان وضوح القواعد المنظمة لها. لكن الأهم هو التنبيه إلى دور الأحزاب، والداخلية، في تحسين جودة النخب المنتخبة، وخاصة في الجهات، لأن ضعف التأطير، والعجز عن مواكبة الطموحات الملكية، بات يسيء إلى المؤسسات الدستورية نفسها.
في هذا السياق، تبرز الحاجة إلى إعادة الاعتبار لدور الشباب والنساء داخل الأحزاب السياسية، وتفعيل روابطهم المهنية، باعتبارهم الحاملين الطبيعيين لطموحات العدالة المجالية، وللقدرة على التجاوب مع التحولات الجيوسياسية والاقتصادية التي يعرفها العالم.
خاتمة: لحظة الحقيقة في مغرب الجهات
الخطاب الملكي يضعنا أمام “لحظة حقيقة” وطنية. لم تعد الدولة مطالبة وحدها بإثبات حسن نيتها في المشاريع والمبادرات. اليوم، المسؤولية موزعة:
• على الفاعل السياسي أن يُفرز نخباً تليق بالمؤسسات.
• على الرأسمال الوطني أن يخرج من منطقة الراحة إلى منطق المواطنة الاستثمارية.
• وعلى الشباب والنساء أن يسترجعوا مواقعهم في الفعل العمومي، بقوة الالتزام الأخلاقي والوعي العميق بالقضايا الوطنية.
العدالة المجالية لم تعد شعاراً تنموياً، بل عنواناً لمرحلة جديدة من العقد السياسي المغربي، قوامها: التوزيع العادل للفرص، وتقاسم مسؤولية بناء مغرب الجهات
إرسال تعليق