شريط

 

اریج عرفة

بقلم /اریــج عرفـة

...في المغرب لا تستغرب فكل خطوة فیھ تحملك إلى عوالم غیر مرئیة، وكل إیقاع یفتح لك بابًا لم یكن في الحسبان. المغرب بلد یسحرك لا بما تراه فقط، بل بما تسمعھ وما یھتز داخلك حین یتلاقى جسدك مع ذبذباتھ

في أحد الأزقة القدیمة، حیث الألوان تلتف حول الأجساد، وحیث الرجال بجلابیبھم البیضاء یرفعون أصواتھم مع نبض الأرض، وجدت نفسي وجھاً لوجھ مع موسیقى لم أعرفھا من قبل موسیقى كناوة



لم تكن مجرد أنغام، كانت أشبھ بموجات كھربائیة تسري في عروقي صوت "القمبري" بثلاث أوتاره العمیقة كان أشبھ بقلبي وھو یخفق، یضرب نب ًضا تحت جلدي القراقب الحدیدیة تصفق، ترن كأنھا سلاسل تُكسر، وأصوات الذاكرین تنشد أسماء وأدعیة، تفتح فضاء آخر بین الأرض والسماء

شعرت بجسدي یرتجف لیس من برد أو خوف، بل من قوة غامضة تُعید ترتیب خلایاي كن ُتأضحكوأرقص،وفيداخليسعادةلاتفسیرلھا،سعادةتشبھالتحررمنعبءقدیملمأكنأعلمأنيأحملھ

حینھا فھمت أن كناوة لیست موسیقى للآذان، بل ط ٌب خف ّي للروح كل اھتزازة تُح ّرر شیئًا، كل دقّة تُذیب قیدًا إنھا موسیقى نزول إلى العمق، تُجبرك على مواجھة نفسك، ثم تتركك في حالة نشوة، كما لو أنك عدت إلى أصلك الأول

ولم یكن غریبًا أن أكتشف أن ھذه الموسیقى، التي جاءت مع أرواح أجداد من إفریقیا السوداء، حملت معھا سر العلاج بالذبذبات منذ قرون والیوم، وھي تعبر العالم من مھرجان الصویرة إلى مسارح أوروبا وأمریكا، ما زالت تحتفظ بسحرھا الأول سحر یھ ّز الجسد، ویوقظ العقل الباطن، ویفتح باب الروح على عالم آخر



بعد لیالي كناوة الصاخبة، حیث یھتز الجسد وتغلي الدماء، وجدت نفسي أمام طقس مختلف تما ًما في فاس، المدینة التي تتنفس صوفیة من جدرانھا وأزقتھا، حضرت إحدى حلقاتھم. لم یكن ھناك قمبري ولا قراقب، بل دفوف وطبول تصنع إیقا ًعا متوات ًرا، ووجوه تتھامس بالذكر، وأصوات ترتفع بالدعاء الجماعي كأنھا نداء قادم من بعید

وھنا، لم یرتجف جسدي كما في كناوة... بل استسلام شعرت كأن قلبي یھدأ، وأنفاسي تصبح أبطأ، وروحي تحلق بخفة كان ثقل الأرض یتبخر، وأجنحة غیر مرئیة ترفعني لأعلى

العیساوة موسیقى صعود، موسیقى تضعك في حضرة السكینة بینطبلةود ّف،یدخلالسامعفيدائرةوجدانیة،حیثیصبحالذكرطاقة،والدعاءنوًرا،والجماعةمرآةلصفاءواحد إنھا موسیقى صلاة، لكنھا صلاة بالجسد، بالرقص، بالصوت الذي یتحول إلى موجة من النور

في تلك اللحظة أدركت الفارق كناوة تنزل بك إلى الأعماق لتطھر جراحك وتحررك أما العیساوة، فھي ترفعك لتضعك في حضن السكینة، حیث یصبح الكون كلھ صلاةً مفتوحة

خرجت من حلقة العیساوة وأنا أشعر أنني خفیفة، كأنني نزعت عني غبا ًرا قدی ًما، وبقي في داخلي فراغ جمیل، فراغ مھیأ لیمتلئ بالنور

إن كل صوت في ھذه الموسیقى لیس مجرد لحن یُسمع، بل ذبذبة تھتز في عمق الجسد والروح بین كناوة والعیساوة لیست فقط في الإیقاع، بل في الطاقة التي تحملھا الذبذبات، والطریقة التي تؤثر بھا على العقل الباطن

حین كنت أستمع إلى القمب ّري وھو یصدر صوتھ الغائر، شعرت كأن موجة تھتز في جسدي كلھ ھذه الذبذبات تعمل كعلاج خفي ِ

تفتح الشاكرات واحدة تلو الأخرى، تُعید للطاقة مسارھا الطبیعي، وتطلق ما تراكم من قلق أو حزن أو خوف وفي حالة العیساوة، كانت الترددات أعلى وأخف، كأنھا تھز الروح برفق، تملأ القلب بالسكینة، وتعید للوعي صفاءه

الموسیقى لیست مجرد أصوات... إنھا لغة الكون نفسھا كل دقة طبلة، كل رنة قراقب، كل نغمة قمبري، تتناغم مع قوانین الطبیعة، مع اھتزازات الأرض، مع نبض النجوم في السماء ھنا، یصبح الإنسان جز ًءا من توازن أكبر، جز ًءا من الانسجام الكوني وھذا ما یجعل المغرب فریدًا بلد یحتوي على موسیقتین روحانیتین، مختلفتین في طبیعتھما، ولكنھما معًا یخلقان توازنًا داخلیًا وخارجیًا للشعب والكون


یمكننا تشبیھ الأمر بمبدأ الین والیانغ كناوة ھي العمق، الظلام، الطاقة الأرضیة، معالجة الجروح العیساوة ھي الصعود، النور، الصفاء، طمأنینة الروح

معًا، یخلقان دورة كاملة، یحافظان على اتزان المغرب بین الخیر والشر، بین القدیم والجدید، بین الأرض والسماء، بین الجسد والروح


Post a Comment

أحدث أقدم